بقلم: غيلي رعي
التقينا ذات ظهيرة مشمسة في يافا، قرب البحر تماما، في المركز العربي اليهودي. مركز جماهيري يمثل نموذجا للحياة المشتركة. في المكتبة، هناك كتب بالعبرية والعربية وأمثال ومقولات على الجدران وعلى البوسترات بكلتا اللغتين. كان ذلك الصباح صباحا صعبا، مرة أخرى، في يوم لقاء قوة المهام، تفرض علينا الأحداث الخارجية – أو تذكرنا – بحجم التحدي والمهمة: في المساء بدأ إخلاء عمونا. تغيب اثنان من أعضاء المجموعة من منطلق الرغبة بالبقاء مع جمهورهم في هذا اليوم الصعب، وقد كان هذا الأمر مفهوما وحاضرا، حتى دون الحديث عنه. وفي الخلفية، اللقاء الذي جرى قبل أسبوعين، في يوم الهدم والقتل في أم الحيران – ما تزال المجموعة مشغولة بالأسئلة والخلافات بالرأي التي جعلها هذا الحدث الخطير تطفو على السطح.
بعد صباح من العمل ضمن مجموعات صغيرة وحوارات، يأتي دور روان لتروي لنا عن نفسها، عن الثقافة والذخائر التي تجلبها. قبل أن نبدأ، حضرت صفاء لوداع المجموعة، وأنا أشعر بالخسارة الكبيرة لأنني لم أستطع التعرف عليها والاستماع أكثر لصوتها خلال المحادثات والحوارات التي جرت حتى الآن.
تجلس روان إلى جانبها كيس من ورق، وهي تتحدث تخرج منه أغراضا وصورا تروي حكايتها. بالصدفة أو لا، تقوم روان في هذه الأيام بالانتقال إلى شقة جديدة، وهنالك أمر شخصي جدا في هذا الكيس الذي يبدو كمجموعة من الذكريات التي صادفتها قبيل الانتقال من الشقة.
أولا الخريطة – تفرش خريطة كبيرة على الأرض، توثق فيها القرى الفلسطينية من فترة ما قبل عام 48. خريطة أرض إسرائيل/ فلسطين. تتحدث روان عن قرية معلول التي طردت عائلتها منها، قرية كانت تتواجد بالقرب من الناصرة. خلال الحرب، هربوا إلى يافة الناصرة (يطلق اليهود عليها اسم يفيع، ليس من الواضح بالنسبة لي لماذا لم يحافظوا على اسم المكان العربي). هناك ولدت وترعرعت – تتحدث روان عن الفرق بين عائلات المهجرين الداخليين والعائلات الأصلية في يافة الناصرة، وبعد الزيارة السابقة إلى طمرة والتعرف على قصة قرية الدامون، بات هذا الواقع ملموسا أكثر بالنسبة لي. كراسة نشرها شبان، ولدوا بعد التهجير بسنوات كثيرة، تنتقل من يد إلى يد. على الغلاف لوحة زيتية للقرية الصغيرة، ما تزال موجودة منذ ذلك الحين، وفي داخلها قصص أبناء جيل روان، الجيل المنتصب القامة، الذي قرر العودة إلى القرية، السير في الطرقات التي سلكها أباؤهم وأجدادهم. ليس كلفتة من حزن وذكرى فقط، وإنما كلفتة حياة. بادروا معا لإقامة احتفال جماهيري للمسيحيين والمسلمين، التقوا خلاله مرة في السنة في اليوم الثاني من عيد الفصح، في الكنيسة التي ما تزال موجودة في القرية المهدومة، للاحتفال بالحياة التي كانت. يثير خيار الحياة مشاعري، يوجد فيه شيء مليء بالقوة، القامة المنتصبة والأمل.
تتابع روان التحدث عن محطات في حياتها، عن المدرسة في الناصرة. الناصرة التي تعتبر فقاعة عربية، حيث التقت لأول مرة بأبناء شبيبة يهود في إطار مشروع لقاءات بين المدارس. وكيف انتبهت لأول مرة في هذا اللقاء أنه لا يجري في الواقع لقاء حقيقي ومتساوٍ، كيف انتبهت منذ ذلك الحين إلى الفروق الصغيرة في التعامل بين اليهود والعرب، للفروق في الثقافات والمسافة الكبيرة بين المجتمعين.
تخرج من الكيس تمثالا على شكل بيضة مرسوم عليها صورة مريم أم يسوع، وتتحدث عن الحياة كعربية مسيحية. عن الأعياد كثقافة وليس كمعتقد ديني تحديدا، وتتحدث عن جدتها، بل إنني أنجح للحظة بتخيل الجدة أمام عيني، وهي تضع عجين أرغفة الخبز على طبق من القش مجدول يدويا، ما تزال روان تحتفظ به. انتقلت من الناصرة إلى حيفا للدراسة في الجامعة، ومن حيفا إلى يافا. في يافا، أصبح اللقاء مع اليهود لقاء حقيقيا. ليس دون ثمن – مثلا، في الرحلة المضنية بحثا عن شقق. للوهلة الأولى، مهمة لا يجب أن تكون مشحونة، لكنها في الواقع لقاء يقطر من كل الجهات خوفا وعنصرية. حتى من خلال مقولات أصحاب البيوت الذين يتظاهرون بقبولهم لها ولكنهم يخافون من العرب الأخرين. كذلك، من الممكن أن نشاهد في يافا آثار المجتمع العربي الذي اندمج وامتزج بالمجتمع اليهودي، ليس كالفقاعة النصراوية التي يتم الحفاظ فيها على الهوية بصورة جيدة من خلال اللغة، في الحيز العام، بثقة بالذات. في يافا، جبت منها الحياة المشتركة ثمنا يتمثل بالعربية التي تآكلت، بالحيز العام الذي لم يعد عربيا، وفي بعض الأحيان تم محو العروبة منه. من جهة ثانية، هنالك في يافا أيضا لقاء بمستوى العينين، بكل التعقيدات والإمكانيات الكامنة فيه. هنالك بناء وإعادة بناء لماضٍ مُحي لكن لم يُنسَ، هنالك أبناء وبنات الجيل المنتصب القامة الذين يصرّون على إحياء: اللغة، الثقافة، الأدب، وبالأساس بالأساس يصرّون على التقاء اليهود من منطلق مختلف. منطلق الإصرار، الفخر، المطالبة بالمساواة وبناء الشراكة. اختارت روان أن تجعل هذا اللقاء نهج حياة، حولته إلى مهنتها – في صداقة – رعوت، الجمعية التي تديرها، حيث يعملون مع أبناء الشبيبة اليهود والعرب، يجمعون بينهم ويبنون مجتمعا مشتركا.
في كل مرة يروي لنا أحد أعضاء أو عضوات المجموعة قصته في إطار الثقافة كذخر، تكون هنالك على الأقل لحظة واحدة خلال القصة، لا يقف/ تقف فيها الراوي/ة على المنصة، ومن داخل قصتها أو قصته كممثل عن فئة، تطلّ قصة عضو أو عضوة المجموعة الشخصية جدا جدا، برأسها. لحظة تتم فيها إزالة كافة القشور، الحماية – ويقف امامنا إنسان واحد/ة يذكرنا بأننا جميعا خلقنا على شاكلة الله، لكننا جميعا، فريدون ومميزون، كل منا بشخصه وبنفسه. هذه اللحظات التي كانت موجودة في قصة روان أيضا، هي الأخرى ذخر، فتحة للأمل بأننا سننجح في مهمتنا، مفتاح للقدرة على العمل معا برغم الخلافات والفجوات الكبيرة. يا حبذا.